رواية السنجة هو عمل يثير الحيرة بالنسبة للكاتب نفسه: د. أحمد خالد توفيق. ففي مقدمة الكتاب يذكر الكاتب أنه كان يشعر بإغراء شديد لإلغاء هذه الرواية ونبذ فكرتها من الأساس، لولا أن شجعه بعض الأصدقاء على إكمال رواية السنجة حتى النهاية.
كانت البداية صادمة بالنسبة لي، ولكنها أثارت فضولي لإكمالها حتى آخر صفحة، وقد كان.
نظرة عامة على رواية السنجة
الرواية من نوعية “أدب المكان”. وهذا النوع من الأدب يستهوي – أكثر ما يستهوي – علماء النفس. فهو عبارة عن وجبة دسمة تحوي الكثير من الشخصيات، والأنماط، والملفات النفسية التي تثير الانتباه في ردود أفعالها وتعاملها مع المكان، والشخصيات المتواجدة في ذلك المكان.
المكان هنا يُدعى (دحديرة الشناوي). اسم غريب، ولكن الشخصيات المحورية في الرواية، وطريقها عرضها البارع من الكاتب غَيَّبَ هذه الغربة، وحوّل الرواية إلى مسرحية لعرض أسماء، وعادات، وطباع، ولزمات العديد من الشخصيات المتباينة في قطاع صغير للغاية، هو (دحديرة الشناوي).

دحديرة الشناوي، هي مثال مبسط للعشوائيات التي تنتشر بشكل كبير في أماكن عديدة من مصر، ومشاكلها – للعارفين بها – لا تُعد ولا تحصى، ليس أقلها كونها بؤرة فساد للعديد من الأنشطة غير المشروعة.
في الرواية يركز الكاتب على عرض شخصيات المكان، وتفاعلها مع بعضها البعض، ومع بطل الرواية الرئيسي (عصام الشرقاوي) والذي هو بشكل أو بآخر الراوي المطلع على كل أحوال الدحديرة، ولكن بدون أن تُكتب الرواية بصيغة الراوي.
ملخص رواية السنجة
من يقرأ تمهيد الرواية سيلحظ أنها قضية اختفاء لشخص ما – عصام الشرقاوي – ويتم الدخول إلى أحداث الرواية لفك شفرة هذا الاختفاء. فينتقل لسان الرواية إلى عصام نفسه، ولكن بلغة الغائب، يتحدث فيها عن فترة تواجده – اختياريًا – في دحديرة الشناوي.
دحديرة الشناوي هي منطقة عشوائية، مليئة بالعشش ومجموعة من الأشخاص أحياء، أموات. أحياء فسيولوجيًا، أموات معنويًا. فكل شخص منهم لديه خيار من اثنين: الأول أن يعمل بجد وشرف للخروج من الدحديرة – ولا ينجح في الغالب – والثاني هو أن ينغمس في الإدمان والجنس وينسى أين هو، ومن هو.
يصف د. توفيق الدحديرة بشكل يوحي بأن الكون كله هو دحديرة الشناوي والدنيا كلها تدور في فلك آخر بالخارج. فلا يخرج بطل الرواية – عصام – من الدحديرة أبدًا إلا إلى شقته المتواضعة، التي – وياللعجب – تطل على البحر في منطقة ساحلية.
وهو لغز يلازم الرواية حتى نهايتها: أين تلك الدحديرة التي تقع بالقرب من البحر في منطقة ساحلية. على الرغم من أن شخصيات الدحديرة بالكامل لا يظهر على أي فرد منهم ما يشير إلى أن هذا المكان بقرب البحر (فلا يوجد صيادون مثلاً، لا يتحدث أحدهم عن البحر، ولا يوجد مشاهد بجوار البحر، وهذا نادر للغاية). بالطبع ينفك هذا اللغز في الصفحات الأخيرة، مع كشف حبكة الرواية ولحظة التنوير فيها.
كما أشرت بأعلى، الرواية من نمط (أدب المكان) وبالتالي يكون التركيز كله على الشخصيات:
عفاف: البطلة الرئيسية في الرواية، والتي تدور الأحداث حولها ومن حولها، والتي اُشتق اسم الرواية مما كتبته على الحائط قبل انتحارها. عفاف فتاة مثلها مثل أي فتاة في هذه البيئة تبحث عن وسيلة للخروج، وتعلم أن جمالها وشرفها هما السبيل الوحيد لذلك.
علاء أبو فرحة: الذي يعمل في محل المخللات، ويدمن شرب البيرة، ويعشق التبول على الحائط.

عباس الدلجموني: تاجر مخدرات في الدحديرة، يجلب بضاعته من صلاح، الذي يجلبها بدوره من حماصة.
حماصة: هو بلطجي الدحديرة، وفتوتها غير المتوج، والذي يفعل أي شيء وكل شيء غير مشروع، ولا يظهر للجمهور إلا في حيز نادر للغاية، وله وجود قوي أينما ظهر. يتحدث عنه الكاتب بوصف جانب كبير من هيبته وخطورته. وعلى الرغم من قلة مشاهد ظهور حماصة، إلا أنه الحاضر الغائب صاحب الحضور القوي للغاية في الرواية.
مصطفى المزين: الحلاق الكلاسيكي الذي مازال يستعمل الشفرة، التي يتم حدّها بقايش جلدي. مصطفى المزين عصبي سيء الطباع، يثور ويسب لأتفه الأسباب. وفيه عشق غير طبيعي للموت وسيرته وأحواله. حالته تتأرجح بين السادية والمازوخية بشكل يصعب قياسه، فهو يعشق كل ما هو مرتبط بالموت، يحب أن يرى الأموات، وأن يحضر غُسْل الميت، وأن يضعه في قبره، ويهيل عليه التراب، ليس طمعًا في الثواب، وإنما لاستشعار مدى قربه من الموت، ثم النجاة منه في اللحظة الأخيرة، والعودة إلى حياته الطبيعية آمنًا، بينما هناك آخر تأكله ديدان الأرض. هو حالة معقدة، ستستشعر تفاصيلها حينما تتعرف عليه أكثر في الرواية.
جمال الفقي: مريض نفسي من النوع الثقيل. يحتاج إلى كتب ومراجع علمية لمعالجته مما هو فيه.
حسين: نموذج الشاب المكافح الذي يقاتل كل ظروفه للخروج نفسيًا من الدحديرة أولاً، قبل الخروج المعنوي، والذي يُصدم من المجتمع في كل جانب، حتى تتكون داخله ثورة قبل ثورة التحرير.
إبراهيم أبو غصيبة: وهو من أعجب شخصيات الرواية على الإطلاق، وكانت الحبكة التي وضعه فيها د. أحمد خالد توفيق تصلح لتكون رواية مستقلة ممتعة، ولكنه للأسف أحرقها في دور بسيط هامشي في هذه الرواية. إبراهيم أبو غصيبة ليس له أي دور على الإطلاق في الأحداث، ولو نزعته من الرواية نزعًا، لم تكن – الرواية – لتحزن عليه. هو رجل يشعر بكل بساطة أنه في كابوس. يرى نفسه غنيًا يرفل في النعيم، ويجلس في الشاليه الخاص به في الساحل الشمالي، مع زوجته اللعوب ناردين، ولكنه يحلم فيرى نفسه أثناء الكابوس، أنه إبراهيم أبو غصيبة الفقير المريض بسرطان الكبد الذي يسكن في دحديرة الشناوي، ومتزوج من امرأة بدينة قبيحة، كريهة الرائحة، لا هم لها في الحياة إلا التشاجر مع الجيران، ودعوة زوجها إلى ضرب زوج فلانة (جوز المرة عطيات). وحتى نهاية الرواية، لم يوضح د. توفيق حقيقة إلى أي عالم ينتمي إبراهيم أبو غصيبة، وساعد على ذلك نهاية الرواية التي تعتبر مفاجئة جيدة نوعًا ما.
وغيرها من شخصيات الدحديرة التي لها دور ثانوي نوعًا ما. لذلك تراه يعرض أنماط من الشخصيات تختلف طبائعها كثيرًا، ولكنها جميعًا تتفق على شيء واحد: بُغْض عصام الشرقاوي.
وهو بغض غير مبرر، ولا يوجد سبب واضح له، اللهم إلا كون عصام يبدو من الأثرياء مقارنة بأحوال أهل الدحديرة. فحتى آخر لحظة في الرواية، ومن خلال محاولات عصام المستميتة للاندماج في الدحديرة، إلا أن أحدًا من أهل الدحديرة لم يقبل عصام الشرقاوي، ولم يرتح له.
الحدث الرئيسي في رواية السنجة
يبدأ الحدث الرئيسي في الرواية حينما تقدم عفاف على الانتحار. وكان انتحارها دراميًا بحق. أحضرت علبة سبراي أسود، وبهدوء شديد كمن لا يشغله أي شيء في الدنيا، كتبت على الحائط كلمة مجهولة، ثم تحركت بهدوء ناحية شريط القطار، وعلى الرغم من تحذيرات عم أحمد شرارة – سائق القطار – الجنونية بأن تبتعد عن القضبان، إلا أن عفاف استمرت في طريقها وكأن شيئًا لم يكن، حتى مزقها القطار تحت عجلاته.

بداية من هنا، ويتحول شغل عصام الشاغل هو معرفة لماذا فتاة مثلها – متوسطة المستوى والتعليم – تقدم على الانتحار. الانتحار عادة يرتبط بقدر معين من الثقافة، فما الذي يحويه عقل فتاة من أهل دحديرة الشناوي يدفعها إلى الانتحار؟
يهديه بحثه إلى آخر ما كتبته عفاف على الجدار. ماذا كتبت؟ لم تكن الكلمة واضحة – وهذا شيء طبيعي من فتاة متوسطة التعليم – فقرأها أول ما قرأها (السنجة).
بدايةً من هذه اللحظة، وتتحول كاميرا المشاهدة لدى بطل الرواية – عصام الشرقاوي – إلى مشهد بانورامي، فيرى حياة عفاف أمامه منذ أواخر طفولتها، وبداية مراهقتها حتى قُبيل انتحارها، للبحث عن السبب الرئيسي لهذا الانتحار.
فتارة يروي مشهد من طفولتها، وذلك البائع الذي تحرش بها، والذي بسببه حملت سنجة الميزان وضربته بها في رأسه. فيستنتج عصام أن ما كتبته الفتاة هو (السنجة) لأنه يعبر عن أول محاولة تتعرض فيها أنوثتها للانتهاك. فترمز السنجة إلى الانتقام الأنثوي للشرف، وحرمة الجسد.
ثم يغوص أكثر في حياتها لينقل مشهد لعبها السيجة مع الأطفال في آخر يوم من أيام طفولتها، لتصبح بالغة، ويحدث هذا أمام الأطفال، ويعاقبها أبوها بجنون على ذنب لم تقترفه، صارخًا في وجهها أكثر من مرة: يا بنت الكلب.

فيستنتج عصام أن الفتاة لم تنس هذا المشهد، وهو الذي استحضرته لحظة وفاتها لتكتب على الجدران كلمة (السيجة) حيث أولى خطوات مراهقتها، وتعذيب المجتمع لها – في شخص أبوها – لأنها أنثى.
وعلى هذا النمط، تمضي أحداث الرواية، وفي كل مرة يرى عصام الكلمة بشكل مختلف، يكون بناءً على غوصه في حياة الفتاة – عفاف – في مرحلة ما من حياتها، والذي دفعها دفعًا إلى الانتحار في النهاية.
فتارة يقرأها السبحة، وأخرى السرنجة، وثالثة السرجة، وهكذا.
نهاية الرواية مفاجأة .. مفاجأة غير متوقعة بناءً على أحداث رواية بهذا التعقيد النفسي، وأظن أن هذه النهاية ستروق لك في ظل أجواء الرواية الكئيبة.
رأيي الشخصي في رواية السنجة للدكتور أحمد خالد توفيق
أتفق تمامًا مع الكاتب في أن هذه الرواية لم يكن ينبغي لها أن ترى النور. هب أن هناك قارئًا أراد أن يطّلع على أعمال الدكتور أحمد خالد توفيق من كثرة من أثنوا على أدبه وقلمه الرشيق، ثم قرر البدء برواية السنجة، فماذا سيكون رد فعله تجاه الكاتب بعد قراءتها؟ أشك أنه سيعاود قراءة أعمال أخرى لأديب بارع له وزنه مثل د. أحمد خالد توفيق. أمتعنا د. توفيق بالعديد من الروايات الممتعة سابقًا، مثل يوتيوبيا، مثل إيكاروس، أكواريل، www، وأخيرًا شآبيب.
لنلق نظرة على الأشياء غير المفهومة في الرواية…
- عنصر جذب غير موفق في تمهيد الكتاب:
في البداية حينما تطالع ظهر الكتاب لتأخذ فكرة عن الرواية، تجد أن الرواية تتحدث عن اختفاء شخص ما – (عصام الشرقاوي) – من بحث الشرطة عنه، أو عن جثته. فينطبع في ذهنك – بطبيعة الحال – أن الرواية ستبدأ بهذا الحدث، أو على أقل تقدير سيكون هذا الحدث هو محور الرواية. حسنًا .. هذا لم يحدث.
بل ظلت شخصية (عصام الشرقاوي) ملازمة لأحداث الرواية حتى آخر 4 صفحات من الرواية. إذًا حبكة الاختفاء كوسيلة جذب، ليست صائبة في هذه الرواية.
- الكاتب بالغ في الإشارة إلى الجنس في رواية السنجة:
طوال الرواية تشعر بأن جميع الأبطال – الذكور – في الرواية لديهم كبت جنسي ناحية عفاف. كلٌ يشتهيها ويتمناها. هذه ليست عادة الدكتور أحمد خالد توفيق الذي يتعرض للجنس في روايته بشكل عابر، كغريزة عادية موظفة لدى البشر، سواء بشكل صحيح أو خاطئ.
ولكن سياق الرواية يوضح وكأن كل أبطال الرواية شغلهم الشاغل هو إشباع شهواتهم الجنسية، حتى الشخصية الرئيسية في الرواية – عصام الشرقاوي – ينام ويحلم ويتمنى لحظة متعة مع عفاف.
- إدخال الثورة في أحداث الرواية غير موفق:
دخلت الثورة على الرواية وخرجت كما هي بدون التأثير على الأحداث الرئيسية في الرواية، اللهم إلا شخصية (حسين). فلو حذفنا الثورة، وأكملنا الرواية كما هي لم يكن ليحدث هذا فارقًا.
- الرواية تُظهر أسوأ ما في الشخصيات
تتعرض رواية السنجة لكل ما هو سيء في شخصية كل فرد. ليس السوء فحسب، ولكن أسوأ ما فيه على الإطلاق. أي تتوغل في عمق كل فرد من أفراد الرواية وتبسط أسوأ صفاته التي لا يجرؤ على البوح بها لأي شخص.
معظم الشخصيات في الرواية أشرار ومجرمين وسيئي الطباع. عباس الدلجموني تاجر مخدرات، علاء أبو فرحة مدمن خمور (بيرة)، مصطفى المزين سليط اللسان يعشق رؤية الأموات بينما هو حيّ، جمال الفقي سادي وماسوشي، حتى عصام الشرقاوي نفسه – بطل الرواية وراويها – عجوز متعطش للانحراف.
ألا يوجد good guys here؟
- تكرار الوصف الأدبي للحالة النفسية غير موفق
في أكثر من موضع من الرواية، يقول الكاتب واصفًا حالة عصام النفسية:
“عندما تغرب الشمس.
عندما يكف الأصحاب عن تقديم عزائهم لك.
عندما تستطيل الظلال قبل أن تفنى.
عندها يبدأ موعد سجنك الخاص.”

على غرار أسطورة النافاراي الأخير (هن – تشو – كان) ولكن بشكل غير موفق. عادة تكرار الوصف أو الحالة، من العادات المحببة لدى د. أحمد خالد توفيق، وهو يجيد استخدامها ببراعة فائقة، فترى مع تكرار نفس الجملة، نفس الوصف، نفس الفعل، سحرًا خاصًا، أو تشعر بمقصود الكاتب من هذا الفعل بدون أن يتحدث.
ولكن تكرار هذا الوصف في أكثر من موضع من رواية السنجة، لم يكن بنفس الجاذبية التي اعتدناها من العرّاب.
- حقيقة المستوى المادي لعصام الشرقاوي
في تمهيد الرواية الرئيسي، وضَّح د. توفيق أن عصام الشرقاوي كاتب مغمور لا أعمال له، ولا وظيفة له، وعلى الرغم من ذلك، فهو لديه شقة ساحلية تطل على البحر، وينفق طوال الرواية على طعام جاهز من المطاعم، ولم يتم الإشارة إلى أي مصدر دخل إضافي خلال الرواية.
- بعض الأخطاء في مشاهد الرواية
مثل ظهور إبراهيم أبو غصيبة في توقيت معين في الرواية – حينما كانت عفاف في عربة الميكروباص – ومن المفترض أن يكون قد مات بالفعل. (وقد تم توضيح ذلك في نهاية الرواية، ولكن بدا التوضيح ضعيفًا).
شراء رواية السنجة للدكتور أحمد خالد توفيق
الآن يمكنك شراء رواية السنجة للدكتور أحمد خالد توفيق، من موقع جملون لتصلك حتى باب منزلك. الشحن مجاني.
امتلك الرواية الآن
الشحن مجاني